الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
يريد به أن النظرَ إلى إمامه جائزٌ، وإن كان النظرُ إلى السماءِ ممَّا يُخَافُ عليه خطفُ البصر، فترجمته هذه ناظرة إلى الوعيد الوارد في رفع البصر إلى السماء، واستدلَّ عليه بلفظ: «حين رَأَيْتُمُوني» فدلَّ على جوازه رؤية الإمام. 747- قوله: (حتى يَرَوْنَه قد سَجَدَ): محمولٌ على كِبَرِ سِنّهِ. 748- (قوله): (تَنَاوَلَ شيئًا)، وفي لَفْظٍ: «أردتُ»، وقد عَلِمْتَ أن عالم الغيب كالمَبْدَأَ لعالم المثال، وعالم المثال كالمَبْدَأَ لعالم الأجسام، وكل مَبْدَأَ تُلْمَحُ فيه التطورات البعدية ولو بنحوٍ من الوجود. قوله: (الجنةَ والنارَ مُمَثَّلَتَيْنِ)... إلخ، وهذا أعلى ما يمكن أن يُسْتَدَلَّ به على ثبوت عالم المثال، ثم إن هذا التمثيل في واقعةٍ أخرى غير واقعة الكسوف. وسقراط وأفلاطون أيضًا أقرَّا بثبوت عالم المثال. وهكذا أرسطو في اثولوجيا. وقد حقَّق فيه أن أفعال الباري لا تُعَلَّل بالأغراض، وقرَّره وأوضحه كما هو حق. وقد قرَّر السيد الجُرْجَانِي في «حاشية حكمة العين»: مسألة وَحْدَة الوجود ببيانٍ أوضح وأَوْفى، فراجعه.
وفيه الوعيد، ثم إنه دار البحثُ فيهم في رفع البصر عند الدعاء خارج الصلاة، فأجازه الشيخ عابد السِّنْدهِي في سالته في هذا الموضوع. وكذلك قال الدَّوَّاني: إنه لا غائلةَ في كون السماء قِبْلة للدعاء. والشيخ عابد السِّنْدِهي من شيوخي بواسطتين، لأن الشيخَ محمود الحسن رحمه الله تعالى وقَدَّس سرَّه، قد استجاز من الشاه عبد الغني قُدِّس سره، وهو من تلامذة السِّنْدِهي، ثم الشيخ فخر الدين العراقي ذكر في رسالته «التبيان في حقيقة الزمان والمكان» أن المكانَ أَثرٌ لصفةٍ من صفاته، وهذا هو حال الزمان، فإِن الدهرَ أثرٌ لصفة من صفاته، الفعلية، وإليه أُشير في قوله: «وأنا الدهر». والتحقيقُ عندي: أن ما من شيءٍ في العالم بقضِّه وقضيضه إِلا ينتهي إلى صفةٍ من صفات الله تعالى، وليس فيه شيءٌ مستقلٌّ. فالزمانُ أثرٌ والدهرُ مَبْدأُ له، نعم ذلك الدهر مرجعه إلى صفةٍ من صفاته تعالى، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وراجع لتذكرة العراقي «نفحات الأنس» للجامي رحمه الله تعالى.
751- قوله: (يَخْتَلِسُهُ الشيطانُ)، فَمَثَلُ الشيطان كَمَثَلِ الكلب بعينه، حيث يشتركُ معه في كثيرٍ من أوصافه وخواصِّه، فَيَلَغُ في الأواني ويَشَمُّهَا، فَيُفْسِدُ الطعام والشراب كالكلب. وكذلك يَسْطُو على الإِنسان إذا غَفَلَ شيئًا، ثم إذا ذكر الله تَلكَّأ عنه: {إن الذين آمنوا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ من الشيطان تذكَّرُوا فإِذا هم مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201)، وهذا مَثَلٌ للكلبِ بعينه، فإِنه يَسْطُو عليك كلما يجدك غافلا، فإذا رفعت عصاك فرَّ مُسْتَثْفِرًا ذنبه. وهذا هو معنى الخَنَّاس، فحالُ الشيطان مع الذكر كحال الكلب مع العصى. وأشياءُ عالم الغيب كلُّها عندي على الحقيقة بدون تأويلٍ ولا استعارةٍ حتى إن صلاةَ المُلْتَفِت لو مُثِّلَت له، لرأى فيها موضع الالتفات مَجْرُوحَةً مُخْتَلَسَةً.
عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «رَأَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم نُخَامةً في قِبْلَةِ المسجد...» إلخ والمصنِّف رحمه الله تعالى حَمَله على داخل الصلاة، وفي عامة طُرُقه: «إنه رآه خارج الصلاة»، ولعلَّه نَظَرَ إلى قوله: «وهو يُصَلِّي». ثم إن المناجاة والإقبال على الله المواجهة، كلها حكايات عن شيءٍ واحدٍ.
فعمَّم فيها بالأنواع كلِّها، وَجَهَر به، ولم يتكلَّم في حقِّ المقتدي بحرفٍ وأخفاه، مع أن جملة الخبر ومحطَّ النظر هو ذلك لا غير. وهذا يَدُلُّ على أن في النفس منه شيءٌ: ولو كان هناك مُنْصِفٌ، لكفى له صنيع المصنِّف رحمه الله تعالى، وشفاه في هذا الباب. فإِنه مع شَغَفِهِ بإِيجاب الفاتحة على المقتدي، لم يَجِدْ إلى إثباته سبيلا، وذلك لأن قولَه صلى الله عليه وسلّم «لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأ بفاتحة الكتاب» لم يَقُمْ عنده دليلا على الإيجاب، وإِلا لجَهَر به على عادته، فإِنه إذا وَجَبَت عنده على المقتدي، فكيف بها إذا كان إمامًا عادلا. نعم وجد لها مساغًا في رسالته، فعمل فيها بما قيل. لقد وَجَدْتُ مكان القول ذا سَعَةٍ *** فإن وَجَدْتَ لسانًا قائلا فَقُلْ وكذلك لم يَقْدِر أن يفرِّق بين الفاتحة والسورة، لفقدان الاستدلال على الفرق بينهما. وأقضي التعجُّب من هؤلاء الذين يَجْعَلُون المصَنِّف رحمه الله تعالى إمامهم في ذلك، ثم لا يَرَوْنَ إلى فَتْرَتِهِ وشِرَتِهم. وإذا فَتَرَ إمامُهم، فما تُغْنِي عنه شِرَتهم، وأين تقع منه. فلْيُغْمِضُو أعينَهم، فإن الصبحَ قد انْبَلَجَ لكلِّ ذي عينين. فاعلم أن ههنا مسألتين ينبغي التمييزَ بينهما. الأولى: رُكْنِيَة الفاتحة، ولا بحثَ فيها عن المقتدي، فهي ركنٌ عند من ذهب إليه سواء كان في حقِّ الإِمام، أو المنفرد، أو المقتدي أيضًا، والجمهور فيها مع الشافعية. والثانية: مسألة قراءة المقتدي، فذهب أبو حنيفة وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى إلى عدم وجوبها في الجهرية، وهو قول القديم للشافعيِّ، ثم اختار القراءة فيهما حين وَرَدَ بمصر قبل وفاته بسنتين. ثم لا أدري هل اختار في الجهرية الوجوب أيضًا، كما يقول به الشافعية، أو الاستحباب فقط. وكان ينبغي للشافعية رحمهم الله تعالى أن يُفْتُوا بقوله القديم، فإن الشافعيَّ رحمه الله تعالى بقي عليه إلى خمسين سنةً من عمره، ولم يَقُلْ بالقراءة في الجهرية إِلا في سنتين من عمره. أمَّا في السرية، فقال مالك رحمه الله تعالى باستحبابها فيها، ومنع عنها في الجهرية. وبه قال أحمد رحمه الله تعالى، إِلا أنه أجاز بها في الجهرية إذا لم يَبْلُغْه صوتُ الإمام، ولم يذهب أحدٌ إلى وجوبها إلا الشافعيّ رحمه الله، تعالى. ففي الزَّيْلَعِي و«البناية»، قال أحمد رحمه الله تعالى: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إن الإِمامَ إِذا جَهَرَ بالقراءة،لا تُجْزِىءُ صلاة من لم يقرأ. ا ه. وهو في «المغني» لابن قُدَامة أيضًا: وقد كان عالمٌ حنبليٌّ قد اتْحَفَنِي بجزءٍ منه، وقد جاء اليوم مطبوعًا، إِلا أنه مملوءٌ من أغلاط الناسخين. وهذا الكتاب من الكُتُب الأربعة التي قال فيها عز الدين بن عبد السلام: أنها من كانت عنده كَفَتْهُ: «السنن الكبرى» للبيهقي، و«المُحَلَّى» لابن حَزْم، و«شرح السنة» للبغوي، و«المغني» لابن قُدَامة. وفي فتاوى الحافظ ابن تَيْمِيَة: بخلاف وجوبها في حال الجهر، فإنه شاذٌّ، حتى نَقَل أحمد رحمه الله تعالى: الإجماع على خلافه. ا ه. وكفاك كلام أحمد رحمه الله تعالى بهذا الإشباع، ونَقْلُ ابن تَيْمِيَة الإجماع عنه يَدُلُّ على أن وجوبَ القراءة في الجهرية خلاف الإجماع، أو لم يذهب إليه أحدٌ من أهل الإسلام. وأمَّا الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فالمحقَّق عندي من مذهبه: أنه حَجَرَ عن القراءة في الجهرية، وأجاز بها في السِّرية، كما نَقَله صاحب «الهداية» عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، وإن أنكره الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، حيث قال: لم أجده في «الموطأ» وكتاب «الآثار». قلت: والصواب ما ذكره صاحب «الهداية» فإن تَنَاقُل المشايخ بروايةٍ يكفي لثبوتها، ولا يُشْتَرط أن تكون مكتوبةً في الأوراق أيضًا، فقد تكون روايته عن إمامٍ، وتُنْقَلُ على الألسنة، ولا توجد في الكُتُب. واختار ابن الهُمَام رحمه الله الكراهةَ تحريمًا مطلقًا. وإنما تَنَحَّيْتُ عنه لمكان الاختلاف في نقل مذهبنا. وراجع له رسالتي «فصل الخطاب في مسألة أمِّ الكتاب». هذا ما سمعتَ حالَ الأئمة، أمَّا حال الصحابة رضي الله عنهم، فالذي يَظْهَرُ بالمراجعة إلى الآثار خصوصًا، لا بإجمال من اختار جانبًا، ثم ذهب يَسْتَرْسِلُ في نقل العمل: أنه ذهب بعضُ السلف إلى تركها رأسًا، وبعضُهم إلى تركها في الجهرية، وبعضُهم إلى إجازتها في الجهرية مرةً، وتركها مرةً كعمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وبعضُهم إلى استحبابها فيها مؤكدًا كعُبَادة، وبعضُهم إلى قراءتها في السَّكَتَات، وأقلُ قليل إلى إيجابها، أو تأكُّدِها في الجهرية على كل حالٍ، كمكحول عند أبي داود. والحاصل: أن من كان يقرأ في الجهرية: أَقلُ قليلٍ، والذي كان يقرأ في سَكَتَاتها: أكثرُ منه، والذي كان يقرأ في السرية دون الجهرية: أكثرُ كثيرٍ، وبعضُهم كان يقرأ في السرية حينًا، ويترك حينًا. أما حالُ الأحاديث المرفوعة، فليس فيها ما يَدُلُّ على وجوبها على المقتدي، لا في الجهرية، ولا في السرية. وليس فيه عن الصحابة إلا ترجيح أحد جانبيها، ولم يبتدىء الشارعُ في تشريع القراءة للمقتدي بشيءٍ، لا بالفاتحة، ولا بالسورة، لا في السرية، ولا في الجهرية. وإنما ابتدأ بها بعضُهم فكَرِهَها، بل كان خالي الذهن عن قراءتهم، حتى خالَجه بعضٌ منهم، فُعُلِمَ الآن أن فيهم قارئًا أيضًا. وكذلك لا يُعْلَمُ من حال المقتدين أنهم كانوا يهتمُّون بالفاتحة أَزْيَد من سائر السور، ولكن من كان يقرأ منهم يقرأ ما بدا له، حتى جاء رجلٌ فقرأ ب: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى}، وبعضهم قرأ التشُّهد أيضًا، فلا يُعْلَمُ اعتناؤهم بالفاتحة، كما راه الشافعية. وإنما كان من يَقْرَأُ منهم يما يقرأ من عند نفسه بدون أمر من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولولا هناك مُنَازَعٌ لَخَفِيَتْ عِنْد قراءةُ من قرأ إلى ما بعده أيضًا، ولكن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لَمَّا سألهم، فقال بعضُهم: لا، وقال بعضُهم: نعم، واعتذر بعضُهم عن قراءته، فقال هذا يا رسول الله، كما عند أبي داود. كأنه يَعْتَذِر أنه إن لم يَفُتْهُ الاستماع، أباح لهم إباحةً مَرْجُوحَةً، فقال: «إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، فلا تفعلوا إِلا بأمِّ القرآن». فعلى الشافعية أن يَشْكُرُوا لهذا المُنَازع حيث أخرج لهم الإباحةَ المَرْجُوحَةَ من أجله. أمَّا الوجوب، فأين هو؟ وهل تكون شاكلةُ الوجوب أن لا يكون الشارعُ نفسه بخِبْرَةٍ منه، حتى إذا عَلِمَه جعل يسأل عنه ويفتِّشه، بل السؤال عمَّا لا يَعْلَمُ استنكارٌ له قطعًا، فلم يَأْمُرْ بها صراحةً، ولكنه استثناها عن النهيِّ. وهل يُفِيدُ هذا النوع من الاستثناء غير الإباحة. فإن راعيت صحة قوله: «إن كنتم لا بد فاعلين...» إلخ لا تَخْرُجُ منه الإباحةُ أيضًا إِلا إباحةً مَرْجُوحَةً، وتِلك الإباحة أيضًا ارتفعت كما يُعْلَمُ مما في «السنن»، فانتهى الناس عن القراءة فيما جَهَرَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَتَرَكَ القراءةَ فقهاؤُهم، وبقي بعضُهم يقرؤون بعد أيضًا. ولذا قلتُ: إن القارئين في الجهرية كانوا أقل قليلٍ. ثم ههنا سِرٌّ، وهو: أن النهيَّ عمَّا يكون خيرًا مَحْضًا لا يمكن إِلا من صاحب الوحي، فعن علي رضي الله تعالى عنه: «أن رجلا صلَّى بالمُصَلَّى تطوُّعًا، فقال له الناس: أَلا تَمْنَعُ هَذا يُصَلِّي؟ قال: ما رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، ولكن لا أمنعه مخافةَ أن الْحَقَ بمن نَعَى عليه القرآن، فقال: {أرأيتَ الذي يَنْهَى * عَبْدًا إِذا صَلَّى} الآية. (العلق: 9- 10). ومن هذا الباب: اختلافهم في الأوقات المكروهة، فمنهم من نَهَى عن الصلوات فيها،نظرًا إلى كراهة تلك الأوقات، ومنهم من تَلَكَّأ عن النهيِّ، فأجاز بها فإنها خيرُ موضوعٍ أينما كانت، ومتى كانت، فلم يتقدَّموا إلى الحَجْر عنها. وكذلك القرآن خيرٌ كلُّه والحَجْر عنه موضع تَأْمُّل، فلمَّا قرؤوا به من عند أنفسهم بدون سابقية عهدٍ منه، لم يَرْضَ به، وأَظْهَرَ الكراهة أيضًا. ومع ذلك لم يَنْهَ عنه ما دام أمكن تحمُّله، كحضور النساء في الجماعات، لم يُرَغِّبْهُنَّ فيها أصلا، ولكن مع هذا لم يَنْهَ عنها أيضًا. وهذا الذي راعاه عمر رضي الله تعالى عنه، حيث كانت زوجته تختلف إلى المساجد في أوقات الصلوات، وكان يُعْجِبُه أن لا تفعل ذلك، فأبت إِلا أَن تَفْعَلَه، ولم يَقْدِر عمر أن ينهاها صراحةً، فجاء يومًا مُتَنَكِّرًا هيئته، ووضع القدم على ذيل مِرْطها، وكانت تذهب لصلاة الصبح بَغَلَسٍ، فاسترجعت وانكفأت، وقالت: ما قال عمر- رضي الله تعالى عنه- حقٌ، فإنَّه فَسَدَ الزمان اليوم. فالقراءة في الجهرية عندي كحُضُورِهِنَّ الجماعات، والإباحة فيهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فمن شاء فليتركها على حالها، ومن شاء بالغ فيها. ويَقْرُبه ما نُقِلَ عن الحلواني من فتواه: أنه لا ينبغي أن يُنْهَى العوام عن الصلوات وأن صلُّوها في الأوقات المكروهة، فإنها وإن كُرِهَت على مذهبنا، لكنها تكون جائزةً على مذهب الشافعية، ولو مُنِعُوا عنها أمكن أن يَمْتَنِعُوا عن أصلها، ويتركوها رأسًا. قلتُ: وهذا التهاونُ لم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فكان المناسب له أن يَنْهَى عنها كما قد نهى. ثم لمّا ظهرت المذاهب، وفشا التكاسُل في الدين، وتُرِكَ العمل به على المذهب، ناسب للمتأخِّرِين أن لا يمنعوهم عنها لأجل المخافة المذكورة. والحاصل: أن النهيَّ عن الخير المحض لا يكون إلا إذا لم يتحمَّله المقام أصلا، وذلك أيضًا من جهة الشارع لا غير، كما نهى عن القراءة في الركوع والسجود، لأنه مناجاةٌ، وهذه الهيئة لا تَصْلُح لها أصلا. ومع ذلك جوَّزه البخاريُّ فيهما، وترك حديث مسلم. فإن شئتَ قلتَ: إنه أجاز بها للمقتدي إجازةً مَرْجُوحَةً، ولم يرض بها. وإن شئتَ قلتَ: إنها رخصةٌ لا عزيمةٌ، وهذا أَيْسَرَ على الموجبين. وأجاب القائلون بالوجوب: إن سؤاله صلى الله عليه وسلّم «لعلَّكم تَقْرَؤُن خلف إمامكم». كما في «السُّنن»، ليس عن نفس القراءة، بل عن الجهر بها، فمعناه: لعلَّكم تَجْهَرُون بها خلف إمامكم. قلتُ: وهو تأويلٌ لا مُسْكَةَ له في ذخيرة النقل، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سألهم عن نفس القراءة، وهم يَحْمِلُونه على الجهر بالقراءة، وهل يَلْصَقُ بالقلب أن يكون هناك أحدٌ يَجْهَرُ بها، مع رؤيته أن الصحابةَ رضي الله عنهم كلَّهم ساكتون، ولا يَجْهَرُونَ بشيءٍ. ثم لو سلَّمنا أنه كان جَهَرَ بها، فلم يَرِدْ السؤالُ عنه ولا عليه، بل هو عن القراءة، وإنما الجهرُ وسيلةٌ لعلمه صلى الله عليه وسلّم أنه قرأ شيئًا. واحتال فيه آخرون: إن السؤالَ إنما هو بما زاد على الفاتحة دون الفاتحة نفسها، فمعناه: لعلَّكم تَقْرَؤُن خلف إمامكم ما زاد على الفاتحة أيضًا. قلت: وهذا أيضًا باطلٌ. ففي الدَّارَقُطْنِي: «هل منكم من أحدٍ يقرأ شيئًا من القرآن»، وحسَّنه. فدلَّ على أن الفاتحةَ وغيرها عنده سواء، وإن السؤالَ كان عن شيءٍ من القرآن دون السورة، وإنه لا وجوبَ عنده على المقتدي. فقال: «هل منكم من أحد»، فلو كانت واجبةً على الكلِّ لسألهم أجمعين، هكذا: هل تقرؤون أنتم؟ لا: «منكم من أحدٍ»، فإنه يَدُلُّ على أنه ليس عنده هناك قارئًا إِلا أحدٌ منهم، وليست هذا شاكلة الواجب. وفيه أن القراءةَ خلفه تُنَاقِضُ منصب الائتمام، ولذا قال: «خلف إمامكم»، مع أن الظاهر خلفي، فَعَدَل عنه، وانتقل إلى بيان منصب الائتمام لتَعُمَّ الفائدة. وحينئذٍ محطُّها: أن خلف الإمام ليس موضع القراءة. وقد يَحْتَالُون بأن قوله: «فانتهى الناس عن القراءة...» إلخ من قول الزُّهْرِيِّ... قلتُ: ويقضي العجب من قولهم ما حملهم على ذلك، فإننا لو سلَّمناه، فالزُّهْرِيُّ تابعيٌّ، ولا يذكر إلا من حال الصحابةِ ثم إن من جعله من قول الزُّهْرِيِّ غَرَضُه أن الزهريَّ قاله نقلا عن أبي هُرَيْرَة، وأخفى به صوته، فثبَّتهم مَعْمَرٌ فيه، فكان إسناد القول إلى مَعْمَر أو الزهريِّ لهذا، فَزَعَمُوا أنه من تلقاء أنفسهم. فعند أبي داود في حديث ابن أُكَيْمَة الليثي عند بيان الاختلاف، وقال ابن السَّرْح في حديثه: قال مَعْمَر، عن الزُّهْرِيِّ، قال أبو هريرة: «فانتهى الناس». وقال عبد الله بن محمد: الزُّهْرِيُّ من بينهم، قال سُفْيَان: وتكلّم الزهريُّ بكلمةٍ لم أسمعها، فقال مَعْمَر: إنه قال: «فانتهى الناس...» الخ. نعم بقي شيءٌ، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلّم «لا تفعلوا إلا بأمِّ القرآن»، وإن لم يَدُلَّ على الوجوب، لكن تعليله بقوله: «فإنه لا صلاةَ إلا بها» يَدُلُّ على الوجوب قطعًا، وبه يَتُمُّ الاستدلال. قلتُ: كلا، فإن قوله قبل التعليل لمَّا دلَّ على الإباحةِ المرجوحةِ ولا بُدَّ، لم يَصْلُح التعليل أن يَدُلَّ على الوجوب في حقِّه. كيف؟ وإنه طفرةٌ من الإباحة إلى الوجوب، وليس بسديدٍ. وهل يناسب عندك أن من كان بصدد إيجاب شيءٍ في آخر كلامه أن يسأل عنه أولا، ويقرِّر إباحته في ابتدائه، ثم يُوجِبه في آخره كأنه سَنَحَ له الآن وجوبُه وإيجابُه، إلا أن يُفْرَضَ أنه تكلَّم خالي الذهن عن الوجوب، فإذا كان عند ختم كلامه سَنَحَ له كسنوح السوانح أن يُوجِبَه، فعلَّله بالوجوب. وهو كما ترى، ليست شاكلة كلام العوام، فضلا عن كلام خير الأنام. وحينئذٍ وَجَبَ علينا وعليهم أن نَشْرَحَ الحديثَ، فإن ظاهره غير مستقيمٍ. ثم استفتِ نفسك- فإنَّ بين جَنْبَيْك مُفْتٍ- إنه إذا خَاطَبَ المقتدين بذلك الكلام، وسألهم عن القراءة، فهل يُنَاسِبُ الإِيجاب في حقِّهم، أو في حقِّ غيرهم كالمنفرد والإمام؟ فإن كنتَ تستطيعُ أن تسمعَ كلامَ الخصم وتَفْهَمَه، فاعلم أنه إيجابٌ على المنفرد دون المقتدي. اسْتُدِلَّ بإِيجابها في الجنس على إباحتها للمقتدي، ولو لم نأخذه في الجنس، وحملناه في حقّ المقتدي، لنَاقَضَ آخِرُ الكلام أولَه. فإن أوَّله يَدُلُّ على إباحتها في حقِّ المقتدي إباحةً مَرْجُوحَةً، وتعليل الإباحة بالواجب لا يَصِحُّ إلا باعتبار كون الوجوب وصفًا لها في جنس الصلاة. وبعبارةٍ أخرى: إنهم حَمَلُوا التعليلَ على أنه حكمٌ بالإيجاب في حقِّ المقتدي، ونحن حَمَلْنَاه على كونه وصفًا للفاتحة، وإن لم يتحقَّق هذا الوصف في حقِّ المقتدي. والتعليل بالوصف شائعٌ عندهم، بل هو لطيفٌ جدًا، بل لا عبارةَ- كترجيح الفاتحة من بين السُّوَر مع كونها مباحةً في حقِّ المقتدي- أَدَلُّ وأَوْفَقُ من هذه. وحاصل الحلّ عندي: أني أَبَحْتُ لكم الفاتحة من بين السُّوَر لمعنى الترجيح فيها، وهو امتيازها بوصفٍ من بين سائر السُّوَر، وهو: وجوبها على المنفرد والإمام عينًا. وليس هذا الوصف في أحدٍ من السُّوَر، فإنها واجبةٌ بدلا، وليست فيها واحدةٌ منها واجبةً عينًا لا على الإِمام ولا على المنفرد. وحينئذٍ صَلَحَت الفاتحةُ أن تتحمَّل قراءته. ونظيره قولك لابن سبع سنين: صلِّ، فإنه لا دينَ لمن لا صلاةَ له. ونظائرُه كثيرةٌ، وإذن هو من باب استدلال الجنس على الجنس الآخر. وحاصله: أنه على وِزَان قولهم: أكرم زيدًا، فإنه أهلٌ لذلك. أعني: إن إباحةَ الفاتحة في حقِّ المقتدي دون غيرها من السُّوَر، لكونها أصلا لذلك، لأنه لا صلاةَ إلا بها، وإن تحقَّق هذا الوصف في حقِّ غير المقتدي من المنفرد والإمام. وإنما صَلَحَ هذا الوصف مُخَصِّصًا إياها من بين السُّوَر لخلو سائر السُّوَر عنه مطلقًا، فلا يتحقَّق هذا الوصف في شيءٍ منها، لا في حقِّ المنفرد، ولا في حقِّ الإمام، وحينئذٍ لو تحقَّق في الفاتحة في الجنس صَلَحَ مُرَجِّحًا أيضًا. وممن صَرَّح بأن قوله: «لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأ...» الخ، في المنفرد دون المقتدي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى عند الترمذي، وسُفْيَان عند أبي داود. ومما يَدُلُّك على أنه في حقِّ المنفرد دون المقتدي: أن صلاة غير المقتدي تُعْتَبرُ أنها فعله، كالمفعول المطلق عند النُّحَاة. فإِنَّ الضربَ في نحو: ضربت ضربًا، فعلُ المتكلِّم. بخلاف المفعول به، فإنه لا يكون من فِعْلِه، بل فِعْلُه يقع عليه، فهو محل فِعْله، كزيد في نحو: ضربت زيدًا. فإِن زيدًا ليس من فِعْل المتكلِّم، بل فعله- وَقَعَ عليه. والفرق الآخر: أن المفعولَ المطلق إذا كان من فِعْله، يكون قائمًا به لا محالة، فإِن الضربَ قائمٌ بالضارب بخلاف المفعول به، فإِنه إذا لم يكن من فِعْله يكون مُنْفَصِلا عنه، نحو: زيد في المثال المذكور، فإِنه مُنْفَصِلٌ عن الضارب قطعًا. فصلاة غير المقتدي اعْتُبِرَت عند الشرع كالمفعول المطلق، فتكون قائمةً بالمصلِّي، وتُعَدُّ كأنها من فَعْلِهِ، ويَجْرِي عليها ما يَجْرِي على هذا التقدير، ويكون بناء الكلام عليه. أمَّا صلاة المقتدي فإنها اعتباران في العرف بحَسَب المقامين: مقام بَسْطٍ واستيفاءٍ لتمام الحال، ومقام اكتفاءٍ واختصارٍ، حيث لا تكون داعية لاستيفاء الحال. فيقولون في المقام الأول: إنه صلَّى مع الإِمام، فيَحْكُون عنها كأنها كالمفعول المطلق للإِمام، والمفعول به للمقتدي، فيُضِيفُون الصلاةَ إلى الأمام كأنها من فِعْله، وإلى المقتدي كأنها ليست من فِعْله، فلا تُنْسَبُ إليه إلا كنسبة المفعول به المنفصِل إلى الفاعل، ويُطْلَقُ عليه أنه يُصَلِّي مقيَّدًا، كالصلاة خلف الإِمام، والصلاة بصلاته. ويقولون في مقام الاختصار: إنه يُصَلِّي، فَيَحْكُمُون بالنظر إلى حكمه المُنْسَحِب عليه، ولا يَذْكُرُون كونه خلف الإِمام حسب داعية المقام، فيُحَلِّلون صلاة الجماعة التي كانت صلاةً واحدةً بالعدد إلى صلواتٍ بحَسَبِ عدد من كان فيها، ويَحْكُون أن فلانًا صلَّى كأنها فِعْله. وبعبارةٍ أخرى: إن صلاةَ الجماعة صلاةٌ واحدةٌ بالعدد في العُرْف والعبارة، وهو عند أبي داود من إحالة الصلاة ثلاثة أحوال قال: وحدَّثنا أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لقد أَعْجَبَنِي أن تكونَ صلاةُ المسلمين أو المؤمنين واحدةً». اه. لا صلوات بعدد من فيها، وإنما ذلك عند التحليل حتى يَتْرُكُون بيانَ الحال بتمامه، ونَقْلَ صورته بتمامها. وبالجملة كانت صلاةُ الجماعة مُفْرَدَةً لا تثنيةً ولا جمعًا، فحلَّلوها إليهما، حيث يريدون نَقْلَ حاله بالنظر إلى حكم نفسه المُنْسَحِب عليه، وكلا الاعتبارين وَارِدَان في ألفاظ الحديث بحَسَبِ المقامات. فالأول نحو حديث: «إذا أُقِيمَتِ الصلاة، فلا تَأَتُوها تَسْعَون، وأتوها تَمْشُون وعليكم السَّكِينة». اه. جعل الصلاةَ كأنها ليست من فِعْله، بل هي مُنْفَصِلةٌ عنه: أتاها، فهي مَأْتِيةٌ، يَرِدُ عليها، ويَصْدُرُ عنها. وجعلها مفردةً في العبارة لا تثنيةً ولا جمعًا. وكقوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة: 9). وقوله: {وَإِذَا نَدَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ} (المائدة: 58). وعن عبد الرحمن ابن عبد القاري في قيام رمضان: يُصَلِّي الرجل لنفسه، ويُصَلِّي الرجل، فَيُصَلِّي بصلاته الرَّهْطُ، والناس يُصَلُّون بصلاة قارئهم. وحديث عائشة فيه: «فصلَّى في المسجد، وصلَّى رجالٌ بصلاته». وفي صلاةٍ في مرض موته: فجعل أبو بكرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي، وهو قائمٌ، بصلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وفي «الفتح»: عن عِتْبان بن مالك، عن أحمد: «فقاموا وراءه، فصلُّوا بصلاته». وعند النَّسائي من حديث عبد الله بن سَرْجِس، قال: «يا فلان، أيهما صلاتك التي صلَّيت معنا، أو التي صلَّيت لنفسك» اه. ففي هذه الأحاديث كلِّها اعْتُبِرَت صلاة الجماعة كأنها ليست من فِعْله، بل من فِعْل الإِمام، ثم المقتدي يأخذ منها حظَّه بنوع ربطٍ مع إمامه. وأمَّا الاعتبارُ الثاني، فنحو حديث البَيَاضي عند مالك في العمل في القراءة: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خَرَجَ على الناسِ وهم يُصَلُّون، وقد عَلَتْ أصواتهم، فقال: إن المُصَلِّي يُنَاجِي ربَّه، فلْيَنْظُرْ بما يُنَاجِيه به، ولا يَجْهَرْ بعضُكم على بعضٍ بالقرآن». اه. وكان ذلك في رمضان. وعند ابن عبد البَر: «والناس يُصَلُّون عُصَبًا عُصَبًا»، وهو مَسُوقٌ لغير المقتدي. ومثله حديث السُّتْرَة عند أبي داود: «إذا صلَّى أحدُكم، فلْيُصَلِّ إلى سُتْرته، وليَدْنُ منها». وكذا: «إذا كان أحدُكم يُصَلِّي، فلا يَبْصُق قِبَل وجهه، فإن اللَّهَ قِبَل وجهه إذا صلّى». ساق الكلامَ فيه بالنظر إلى حال المصلِّي في نفسه، ولذا لم يَذْهَبْ أحدٌ إلى إيجاب السُّتْرَة لكلَ في صلاة الجماعة، لأنهم حَمَلُوا الحديثَ المذكورَ في المنفرد، وقد مرَّ تقريره. وإذا سَمَحَت نفسُك بقَبُول هذا ولم تُمَاكِس، فحديث: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن» يَنْسَحِبُ على كل صلاةٍ مفردةٍ من عدد الصلوات في حقَ من يُوصَف بأنها فِعْلُه. ولذا لم يَصِفْهم في هذا السياق بكونهم خلف الإمام، فإذن هو في صلاة المنفرد أو الإِمام دون المقتدي. فالحديثِ وَرَدَ في صلاة المنفرد، كما أقرَّ به أحمد وسُفْيَان رحمهما الله تعالى، وهم نَقَلُوه إلى صلاة الجماعة، وأنه جاء بالنظر إلى حاله في نفسه، وهم نقلوه في حاله مع غيره، فسبحان من لا يَسْهُو ولا يَنْسَى. ثم اعلم أنه ليس اعتبارُ الشريعة في قراءة المقتدي أنها ليست عليه، بل اعتبارُها أن قراءةَ الإمام له قراءة. وقد أَخْرَج له الشيخُ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى إسنادًا على شرط الشيخين من «المسند» لأحمد بن منيع، وهو مفقودٌ اليوم، فَرَاجَعْتُ له «المطالب العالية في زوائد الحديث الثمانية» للحافظ بن حَجَر رحمه الله تعالى، لأن الحافظَ رحمه الله تعالى قد جَمَعَه من ثمانية «مسانيد»، إلا أني لم أجده فيه، فَحَدَثَ في نفسي اضطرابٌ حتى عَلِمْتُ أن نسخةَ «المسند» المذكور لم تكن عند الحافظ رحمه الله تعالى بتمامها، فحينئذٍ زال القلق، وظَنَنتُ أنه يكون في الحصة التي لم تَبْلُغ الحافظُ رحمه الله تعالى. ثم في حاشية الشيخ أبي الحسن السِّنْدِهي على «فتح القدير» المسماة «بالبدر المنير»- وهي إلى النكاح فقط : إن شرح الهداية رواية وجوب العيدين والكسوف، ووجوب الاستسقاء بأمر الإمام. وقد صرَّح الحموي في «حاشية الأشباه»: أن الصوم يجب بأمر القاضي، وحينئذٍ لو أَمَرَ بالاستسقاء يَجِبُ أيضًا. وبه أَفْتَى النووي، أي بالوجوب بأمر الإمام، كما في شرح «الجامع الصغير». وكان العلماء خَالَفُوه في زمنه. وقد تحقَّق عندي أن فتاوى الحموي تكون أكثرها مأخوذةً من النووي. وقد مرَّ مني عن قريبٍ: أن الوجوبَ من جهة أمر الإمام عارضي يَقْتَصِرُ على زمانِ إمارته، فهو وجوبٌ وَقْتِيٌّ. ومن هذا الباب: حرمة الدخان كما قاله المُنَاوي. فإذا مات الأميرُ، انتهت الحرمة، وعادت الحِلَّةُ على الأصل، وهذا كلُّه في الأمور الانتظامية، أمَّا في الأمور الشرعية، فلا دَخْل لأمر الإمام فيها. ثم إن أمرَ الخلفاء الأربعة فوق أمر الأمير وتحت التشريع، فَيُتَّبَعُ بهم في بعض الأمور الانتظامية كالتشريع، كالجماعة في التراويح. وأَرَى كثيرًا من الأمور الانتظامية فَعَلَها عمرُ رضي الله عنه في زمنه، ثم الحنفية جَعَلُوها مذهبًا وعَامَلُوا معها ما يُعَامَلُ مع الشرعيات. ونظائرُها تُوجَدُ في المذاهب الأربعة، وهكذا ينبغي لقوله صلى الله عليه وسلّم «اقتدوا بالَّذَيْن من بعدي: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما». ولعلَّ منصبهم بين بين. ومرَّ الرازي على تفسير آية الإطاعة: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} (النور: 54) ثم أُولي الأمر: بالإجماع. وفسَّره في الآية الثانية: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) أنه أبو بكرٍ رضي الله عنه، مع أنه لم يكن خليفةً في حياته، ولا حاكمًا. ومتى نُفَتِ الصلاة، فهو باعتبار انتفاء الفاتحة فما فوقها. وأرى أن هذا يُطْرَد فيما هو على اسم الصحيح أو الحسن، وكفى بهما عن الضِّعَاف. وأرى أن هذا ليس اتفاقًا أو جِزَافًا، بل حكايةٌ عن الواقع وعن الحقيقة. فالصلاةُ بترك الفاتحة خِدَاجٌ، وبترك الفاتحة فما فوقها مَنْفِيَّةٌ، على أن في نفس قوله: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن» بدون قوله: «فصاعدًا»، إشارةً إلى السورة، وبناءً للكلام عليه، وذلك للفرق بين قولهم: قرأها، وقرأ بها. وأَوْضَحَه الحافظُ بن القَيِّم في «بدائع الفوائد». وحاصلُه: أن الفعل إذا عُدِّي بنفسه، فقلتَ: قرأتُ سورةَ كذا، اقتضى اقتصارُك عليها لتخصيصها بالذكر. وأمَّا إذا عُدِّي بالباء، فمعناه: لا صلاةَ لمن لم يأتِ بهذه السورة في قراءته، أو في صلاته، أو في جملة ما يقرأ به، وهذا لا يقتضي الاقتصارُ عليها، بل يُشْعِرُ بقراءة غيرها معها. ا ه. ثم أَطَالَ الكلامَ في نظائره وتقريره. وعلى هذا، فالفاتحةُ في الحديث تكون من جملة قراءته، فَيُدلُّ على القراءة بغيرها. هذا، وبالجملة لا حُجَّةَ لهم في الحديث على مسألة الرُّكنية كما عَلِمْتَ، والله تعالى أعلم. ثم أقول: إن المسألةَ إذا كانت مما يَكْثُرُ وقوعها، ثم لا تَجِدُ للعمل بها صورةً ونظمًا عند الشارع، كان ذلك دليلا على عدم اعتبارها في نظره، فنقول: إن أحدًا لو أَدْرَكَ إمامه بعد قراءة الفاتحة، فلا يَخْلُو: إما أن يَقْرَأَ بالفاتحة، ويَشْتِغِلَ بها، لأنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها. أو يُوَافِقَ إمامه بالتأمين، ثم يقرأ بها. فعلى الأول: يَرْزَمُ ترك الأمر بالموافقة، وعلى الثاني: تَنْقَلِبُ الوظيفة، فإن التأمين شُرِعَ عَقِيبَ الفاتحة لا قبلها. فانتفاهُ التأصيل والتفريع، واختلالُ النظم، دليلٌ على أن المقتدي لم يُوَسَّع له في حلقة القراءة، ولذا تراهم اختلفوا، فقال قائلٌ: إن المقتدي يتبع سكتات الإِمام، ولا ينازِعُ معه. وإذن لا بدَّ للإمام أن يَسْكُت سكتةً تَسَعُ قراءته، وذلك أيضًا غير معهودٍ عنه صلى الله عليه وسلّم فإنه لم يَثْبُتْ عنه إِلا سكتةً للاستفتاح، والثانية للتأمين، أو ليترادَّ إليه نفسه. أمَّا السكتةُ الطويلة بحيث تَسَعُ الفاتحة، فتلك قد عرفها الموجِبُون لا غير، كيف وإنه يَسْتَلْزِمُ قلب موضوع الإمامة؟ نعم لا بأس به عندهم، فإنهم يَلْتَزِمُون فوق ذلك من اختلاف نية الإمام والمأموم، وصحة صلاته مع فساد صلاة الإمام، إلى غير ذلك من التوسُّعات في مسائل القُدْوَة كما قد عَلِمْت. وقال قائلٌ: يقرأها بعد الثناء، وقال آخر: بعد قراءة الإمام. وكل ذلك التشويش، لأن الشريعةَ لم توسِّع له في الحلقة، ولذلك يَطْلُب هذا موضعًا لها، ولا يجده، ثم تَشْمِئزُّ إليه نفسه، لأنه لا صلاةَ إِلا بها، فيضْطَرُّ تارةً بوضعها ههنا، وتارةً ههنا. وهل هذا هو شاكلة الواجب الذي يتكَّرر في كل صلاةٍ أربع مرات؟ ثم لم يَثْبُت له نظمٌ ولا يَسْتَقِرُّ فيه رأيٌ؛ فذقه. وهذا الذي كنتُ أقول فيما مرَّ: إِنَّا لو سلَّمنا الرفعَ عند الرفع من الركوع، فما تكون له صورة العمل؟ فإن الرفعَ عند الرفع من الرُّكُوعُ مُتَعِسِّرٌ أو مُتَعَذِّرٌ، ولذا قلتُ: إن بناء الشرع ليس على الفاتحة، ولا على رفع اليدين. وهذا الذي كنتُ أَقْصِدُ من الاختلال، وعدم التأصيل والتفريع. وقد فَرَغْتُ من مسألة القراءة خلف الإِمام بقدر ما قَصَدْتُ إلقاءه في هذا الكتاب. ومن شاء الاطلاع على تفاصيلها، فليرجع إلى رسالتنا «فصل الخطاب». 755- قوله: (شَكَا أهل الكُوفَة) يعني من جُهَلائِهِمْ الذين كانوا لا يُحْسِنُون الصلاة. 755- قوله: (وأُخِفُّ): من التخفيف، وفي نسخةٍ: «وأَحْذِف». واستدلَّ منه الشيخُ العَيْنِي رحمه الله تعالى على عدم فرضية القراءة في الأُخْرَيَيْن، وسكت عليه الحافظ رحمه الله تعالى. قلتُ: وإنما تكلَّم الشيخُ رحمه الله تعالى ههنا في مقابلة الحافظ رحمه الله تعالى، وإلا فالمختارُ عنده وجوب الفاتحة في الأُخْرَيَيْن، وإن كان في غير ظاهر الرواية، كما في «شرح الهداية»، وهو المختار عند الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى. قلتُ: والدلائلُ على وجوبها كثيرةٌ، ولم أَرَ لعدم الوجوب إِلا أَثَرَيْن: أحدهما عن ابن مسعود، والآخر عن عليّ رضي الله عنهما، غير أن الفصلَ إنما يكون بالتعامُل، فلينظره. بقي تمسُّك العَيْني رحمه الله تعالى من نسخة: «أحذف»، فالإِنصافُ أن المرادَ منه التخفيف. فائدة واعلم أن الشيخَ العَيْنِي كان أسنَّ من الحافظ رحمهما الله تعالى، وقد بقي بعده ثلاث سنين، وكان عمره تسعين، وكان يُؤَلِّفُ: «شرح الهداية في نور المصباح»، وألَّف: «شرح الكنز» في ثلاثة أشهر. 755- قوله: (أَمَّا إذا نَشَدْتَنَا...) إلخ، يعني إذا تُنْشِدُنا بالله، فاعلم أن ما ذكرناه كان حيلَة للشِّكاية، أمَّا حقيقةُ الأمر، فهو هذا... إلخ. 757- قوله: (ارجع فَصَلِّ). هذا الحديث: حديثُ مُسِيء الصلاة. قال الشيخُ تقي الدين ابن دقيق العيد: إنه يجب على المُحَدِّث أن يَجْمَعَ طُرُقه، فإِنه تعليمٌ لشرائع الصلاة من قِبَل صاحب النبوة. قال الحافظ ابن حَجَر رحمه الله تعالى: أني امْتَثَلْتُ أمره، فأخذت عنه ثمانين مسألةً، ويُعْلَمُ من طُرُقه كما هو عند الترمذي: أن الرجل كان قَصَر في التعديل. وبالجملة، فالإِمام البخاري رحمه الله تعالى أَخْرَج في هذا الباب عِدَّة أحاديث، غير أنه لم يَجدْ حديثًا صريحًا يَدُلُّ على تعيين الفاتحة، ولذا لم يُتِرْجِمْ بها عينًا، نعم في رسالته ذهب كل مذهب. فائدة واعلم أن المصنِّف رحمه الله تعالى قد شدَّد الكلامَ على مسائل أبي حنيفة رحمه الله تعالى في رسائله، ولم يكن ذلك يَلِيق برِفْعَة شأنه. وقد سَمِعْتُ من بعض الفضلاء قصةً في وجه نَكَارته من الحنفية، وهي: أن ملك بُخَارا أمر المصنِّف رحمه الله تعالى أن يُعَلِّمَ أبناءه في بيته، فأجاب المصنِّف رحمه الله تعالى: من شاء فليأتنا، ولا حاجةَ لنا إلى الذهاب إلى بيت أحدٍ، فَغَضِبَ عليه الملك وأَجْلاه. فخرج البخاري رحمه الله تعالى إِلى خَرْتَنْك- موضع بَسَمَرْقَنْدِ- وألقى بها عصاه، ودعا ربه: أنه لم يَبْقَ له بعد ذلك في الحياة حاجة، فتُوُفِّيَ في يوم العيد. قيل: إن الذي ساعد الملك على إخراجه أبو حفصٍ الصغير، وهو تلميذ أبي حفصٍ الكبير- تلميذ الإِمام محمد رحمه الله تعالى- وهذا هو سبب نَكَارة البخاري رحمه الله تعالى من الحنفية. قلتُ: ولي فيه تردُّد لِمَا ذَكَرَ الحافظُ رحمه الله تعالى فى مقدمة «الفتح»: أن أبا حفصٍ الصغير كان رفيقًا للبخاري في أسفاره، حتى أنهما كانا يَتَهَادَان أحدهما إلى الآخر، فما دام لا يتحقَّق للتغاضُب بينهما سببٌ، لا أَثِقُ بتلك الحكاية. والله تعالى أعلم بالصواب.
واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لمَّا لم يَجِدْ دليلا للفرق بين الفاتحة والسورة كما عَلِمْتَ، ترجم على نفس القراءة: الفاتحة وغيرها سواء. ومن العجائب ما نُسِبَ إلى ابن عباس رضي الله عنه من عدم القراءة في العصرين، وما ينقله بعض الرواة: «إن كنا نعرف قراءته من اضْطِرَاب لحيته، فهو إمارةٌ مَحْضَةٌ، قلتُ: فأين ذَهَبَت الفاتحةُ، لو كانت رُكْنًا عنده، فالقراءة فيهما إنما تُبْنَى على التعامُل والتوارُث، ولمَّا لم يكن هناك اختلافٌ لم ينازع أحدٌ منهم في لفظ الاضْطِرَاب أنه ما يفيد، ولو كان لوَقَعَ الجَلَب والشَّغْبُ؛ وهذا يَدُلُّ على أن المسائل لا تُبْنَى على ألفاظ الرواة فقط بل الفاصلُ هو التعامُل لا غير. 759- قوله: (يُطَوِّل في الأُولى)، وحُمِلَ من جانب الشيخين: على أن الطولَ من أجل الاستفتاح، لا من تِلْقَاءِ القراءة. قلتُ: والظاهرُ مذهب محمد رحمه الله تعالى لِمَا عند أبي داود: «كان يُطَوِّل حتى ينقطع خسخسة الأقدام». أقولُ: والأحسنُ أن يستوي بينهما إِلا إذا رَجَا إدراكَ الناس، فيطوِّل على ما هو في الحديث. 762- قوله: (ويُسْمِعُنا الآية أحيانًا). واختلف مشايخنا في وجوب سَجْدة السهو إذا جَهَرَ في السِّرِّيَّةَ. فقيل: تَجِبُ ولو بكلمةٍ. وقيل: بآيةٍ تامةٍ. وقيل: بأكثر من الآية، وأَخْتَار الثاني، وإن جَازَ حمله على الثالث أيضًا، فإِن الجهرَ بالآية لا يَسْتَلْزِمُ الجهر بتمامها، فإِنك تقول: ضربتُ زيدًا، مع أنك لا تَضْرِبُ إِلا بعضه، فكذلك الفعل إذا وَقَعَ على محلٍ لا يوجب استيعابه لغةً، وحينئذٍ جَازَ أن يعبِّر بجهر الآية فيما إذا جَهَرَ ببعضها، إِلا عند ابن جَنِّي، فإنه يقول: إن قولهم: ضَرَبْتُ زيدًا، مجازٌ فيما إذا ضرب بعضه، وخَالَفَهُ الجمهورُ في ذلك. ثم إن الجهرَ بها كان للتعليم، أعني به تعليمَ ما يَقْرَأُ، لا تعليم الجهر نفسه، وهكذا كان الجهرُ بالتسمية، فلم تكن سنة بل تعليمًا لما يقرأه، واسْتُحْسِنَ الجهرُ بها في السِّرِّيَّة لدفع المارِّ.
763- قوله: ({وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1)... إنها لآخِرُ ما سَمِعْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ بِها في المغرب). واعلم أن الاختصار في القراءة مستحبٌّ في المغرب، فحمله الطحَاويُّ على أنه قَرَأَ ببعضها ولم يقرأ بتمامها. ثم لو سُلِّم أنه قرأ بتمامها، فلا بأس أيضًا، فإن التطويلَ أيضًا جائزٌ بشرط عدم التثقيل على القوم، واشتباك النجوم، وقد مرَّ مني: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خَرَج في مرضه في المغرب أيضًا»، وهو صريحٌ عند النَّسائي. وأوَّله الحافظُ رحمه الله تعالى: أنه خرج من ناحية بيته إلى ناحيةٍ أخرى. ثم إن أبا داود قال: إن تطويلَ القراءة في المغرب منسوخٌ، مع أنك قد عَلِمْتَ أن قِراءته ب: «المرسلات» كان في مرض الموت، فكيف يمكن القولُ بالنسخ إن لم يُحْمَل نسخه على ما قاله الطَّحَاويُّ، وإذا قال الطحاويُّ: إن رفعَ اليدين منسوخٌ، جَلَبُوا عليه من كل جانبٍ، مع أنه يتكلَّم ممن اختار الوُجُوبَ، ونسخُ الوُجُوب لا يُوجِبُ نسخَ الجواز، على أن النسخَ عنده ليس بمعنى رفع المشروعية، بل إذا جاء أمرٌ، ثم ثَبَتَ عنه بخلافه، يُطْلِقُ عليه النسخَ كما عَلِمْت منَّا مرارًا. واعلم أن في إسناد هذا الحديث: مروان، وفي نفسي منه شيء، فإنه صار سببًا لإثارة فتنة شهادة عثمان وطَلْحَة رضي الله عنهما، وهو الذي كَتَبَ لمحمد بن أبي بكر: أقتلوه مكان فاقبلوه، كما مرَّ. ومع هذا كان صادق اللهجة غير كذوبٍ، فتُعْتَبَرُ روايته. قال المُقْبَلي- وهو زيدي- إن البخاري لفرط تعصُّبه من الحنفية يأخذ الروايات من الرجال المجهولين، ولا يأخذها من نحو محمد رحمه الله تعالى، وهذا الزيديّ لمّا اشتغل بالحديث فَتَر في زيديته.
765- (قوله): (عن محمد بن جُبَيْر بن مُطْعِم عن أبيه...) إلخ، وكان جاء لافتكاك أُسَراء بدر، وسَمِعَ هذا الحديث، ثم أَسْلَم بَعْدُ، كما في «معاني الآثار» مفصَّلا، وللمحدِّثين نزاعٌ في أنه هل يُعْتَبَرُ بسماع الكافر أو لا؟
وهو سنةٌ عند الجمهور، وواجبٌ عندنا، ولا دليلَ له عندي. 766- (قوله): (فَسَجَدَ)، قد تَفْسُد بها الصلاة عندنا في السِّرِّيَّة، وهو مُشْكِلٌ، فإِن السجدة من جنس أفعال الصلاة، فينبغي أن لا تَفْسُد بها الصلاة كالأذكار في غير موضعها، مع كونها غير مشروعةٍ. 767- قوله: (فَقَرَأ في العِشَاء في إحدى الرَّكْعَتَيْنِ)، وقال الحافظُ رحمه الله تعالى: وَقَرَأَ في الثانية: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} (القدر: 1).
قوله: (قالت أُمَّ سَلَمَة) إلخ، وهذا في حُجَّة الوداع. 772- قوله: (في كلِّ صلاةٍ يُقْرَأُ) أتردَّدُ في رفعه ووقفه، وأمَّا قوله: (وإن لم تَزِدْ على أُمِّ القرآن)، فمن قول أبي هُرَيْرة رضي الله عنه، وهذا يَدُلُّ على استحباب السورة عنده، ثم تبيَّن لي أن أبا هريرة رضي الله عنه إنما قاله في حقِّ المسبوق، لِمَا عند مالك: «من فاتته الفاتحة، فقد فاته خيرٌ كثيرٌ».
قوله: (وقالت أَمُّ سَلَمَة رضي الله عنها: طُفْتُ وراءَ النَّاس...) إلخ، وقد مرَّ أنه كان في حَجَّة الوداع، وكانت أُمُّ سَلَمة رضي الله عنها شاكيةً، فَطَافَتْ من وراء الناس والنبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُصَلِّي صلاة الفجر يَقْرَأ بالطور يَجْهَرُ بها. 773- قوله: (عَامِدين إلى سُوق عُكَاظٍ)، واتفقوا على أنه قبل الإسراء حين كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَذْهَبُ إليهم لتبليغ الإِسلامِ. 773- قوله: (وأُرْسِلَتْ عليهم الشُّهُب)، واستشكل الحديث، فإنه يَدُلُّ على أن الحَيْلُولة وإرسال الشهب بَدَأَ من زمن نبوته صلى الله عليه وسلّم مع أن إرسال الشُّهُبِ من بَدْءِ الزمان، والجواب كما في الهامش عن الكِرْمَاني إنها وإن كانت من قبل أيضًا، إلا أَنه غَلُظَ أمرها في زمنه صلى الله عليه وسلّم وههنا إشكالٌ آخر: وهو أنه يُعْلَمُ من سِيَاق القصة أن إرسال الشُّهُب وضربهم في مشارق الأرض، كانا في زمانٍ واحدٍ، مع أن ضَرْبهم في الأرض حالُهم في أوائل نبوته، وإرسال الشُّهُب فيما بعدها بكثير. بقي أن هذه الشُّهُب هي النجوم بعينها، أو شيءٌ آخر؟ فالتحقيق أنها هي النجوم بعينها، لا كما في هيئة بطليموس، فإنه ثَبَتَ اليوم الخرق والالتئام في الأجسام الأثيرية، وشُوهِدَت في الشمس مشاعيل وغُبْشَات، ثم الشياطين: أُطْلِقَ عامةً على الجن. وفي كُتُب السير: إن هؤلاء الجن كانوا من نَصِيبِين، وهو قريبٌ من الموصل، وبقربه بابل. قيل: إن قصة هاروت وماروت كانت في زمن إدريس عليه السلام، وهناك بُعِثَ نوح، وبعده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ولعلَّ جِنَّ نَصِيبينِ جاؤا لهذه السلسلة. 773- قوله: (توجَّهُوا...) إلخ، ولعلَّهم لمَّا رأوا الشُّهُب تَطَلَّبوا أمرها، فإذا لم يتحقَّق عندهم أمرٌ قَعَدُوا قانطين؛ ثم اتفق أنهم رَأْوْه يُصَلِّي فيما بعده بكثير. 773- قوله: (بنخلة) موضع عند الطائف، وهي غير بطن النَّخْلة. 773- قوله: (وهو يُصَلِّي بأصحابه صلاةَ الفجر) وثَبَتَ فيها الجهرُ والجماعةُ والقراءةُ، وهي شاكلةُ الفريضة، فلا دليل على كونها نفلا قبل الإسراء. قوله: (وإنما أُوحِي إليه قولُ الجِنِّ)، قال ابن عباس رضي الله عنه: إن شهودَ الجِنِّ واستماعهم لقراءته، كلُّه كان بخبر الوحي، ولم يَطَّلِع عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم حين قالوا ذلك. وعند مسلم، في باب سجدة التلاوة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنه آذنته الشجرة بتلك القصة». وهو في البخاري أيضًا في التفسير. واعتمد المفسِّرون على قول ابن مسعود رضي الله عنه، لأنه أكبرُ سنًا منه، ولعلَّ ابن عباس رضي الله عنه لم يكن وُلِدَ بَعْدُ. ثم في إسناد مسلم: مَعْن، وهو ابن أخٍ لابن مَسعود رضي الله عنه، وكان ابنه القاسم كثيرُ الملازمة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، فاقْدِر قَدْرَ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، حيث يتعلَّمُ منه الدينَ ذريةُ ابن مسعود رضي الله عنه. 774- قوله: (وسَكَت فيما أُمِرَ...) الخ، أي من السورة، ويَحْمِلُه البخاري على السِّرِّيَّة، إلا أنه يُرْوَى عنه عند الطحاويِّ بأَسنادٍ جيدٍ: إني قد عَلِمْتُ الدينَ كلَّه، إلا أني لم أتحقَّق القراءةَ في السرية، ولا أدري ماذا مراده، فإِنه يُرْوَى عنه القراءة أيضًا. واضْطَرَب الحافظُ رحمه الله تعالى هناك، واستشعر أنه تَنْهَدِمُ منه ركنية الفاتحة. قلت: ولا تمسُّك فيه للحنفي، فإنه يُخَالف الوجوبَ أيضًا. 774- قوله: (وما كَان ربُّك نَسِيًّا)، وشرحه في القاموس بما لا يوجد في شروح الحديث، فراجعه. 774- قوله: (أُسْوَةٌ): صفةٌ مُشَبَّهةٌ كالقدوة، وجِيئَت بصلة «في» للتجريد، ولو كان مصدرًا لما كان مناسبًا.
وهو جائزٌ عند الطَّحَاويِّ، وكَرِهَه في «الكبيري» في بعض الصور. قوله: (القراءة بالخَوَاتِيم)، والمستحبُّ عندنا: أن يقرأ في ركعة بسورة بتمامها. قوله: (وبسُورَةٍ قبل سُورَةٍ)، كَرِهَها ابن نُجَيْم، وقال: إن رعايةَ الترتيب من واجبات القراءة دون الصلاة، فلا تَلْزَم سجدة السهو بتركها، وذلك لأن الترتيبَ حادِثٌ بعد جمع القرآن، والرواياتُ التي تَدُلُّ على خلافه كلُّها قبل جمع القرآن، فلا تكون حُجَّةً علينا. ثم جاء الملا نظام الدين وحسَّن كلامه. ثم استدلّ صاحب «البحر» على الفرق بين التطوُّع والفريضة، حيث لا يكره اختلال الترتيب في النافلة: بأنَّ كلَّ ركعةٍ من النفل صلاةٌ برأسها. أقولُ: إن المشهورَ أن ترتيبَ الآيات توفيقيٌّ، وإِمَّا ترتيبَ السور فاجتهاديٌّ، وقيل: توفيقيٌّ أيضًا، غير الأنفال والتوبة، وهو المختار عندي، ولكنه لمَّا لم يَبْلُغ عند الصحابة رضي الله عنهم إلى حدِّ الوجوب، وبقي من باب المحسَّنات، ظنَّ أنه كان عندهم اجتهاديٌّ. م- قوله: (وقال عُبَيْد الله)، وقد وصله الترمذيُّ. 774 م- قوله: (رجلٌ من الأنصار)، وهو اسمه: كلثوم بن هِدْم، متقدِّم الإِسلام، وكان إمامُ قومه. 774 م- قوله: (كلما افتتح...) إلخ، وظاهره تركُ الفاتحة أيضًا، وتمسَّك منه العَيْني رحمه الله تعالى لمذهب الحنفية. قلتُ: والذي يُظَنُّ به: أنه كان يَقْرَأُ الفاتحةَ وسورةَ الإخلاص على التعيين، وسورةً أخرى أيضًا لا على التعيين، وإلا فالحديثُ لا يَسْتَقِيمُ على مذهب الحنفية، فإنه يَلْزَمُ عليهم أيضًا تركُ الواجب. بقي لفظ: «الافتتاح»، ففيه وَسْعَة، خُذْه بأي اعتبارٍ شِئْتَ. 774 م- قوله: (لا تَرَى أنها تُجْزِئُك)، يُشِيرُ إلى وجوب ضمِّ السورة. تحقيقُ لفظِ الإجزاءِ والصِّحَّة واعلم أن هذين اللفظين ممَّا يَكْثُر وقوعهما في كثيرٍ من عبارات فقهائنا مع اشتمال المقام على الكراهة، فيقولون: صَحَّت الصلاة وأجزأت، مع أنها تكون مكروهةً عندهم. وهذان اللفظان يُشِيرَان إلى انتفاء الكراهة، فَيَزْعُمُ الخصومُ أنها غير مكروهةٍ عندنا، ثم يُورِدُون علينا ويردُّون علينا. ولو وَضَعَ الفقهاءُ مقامهما لفظًا آخر، لم تَرِدْ علينا تلك الإيرادات، ولم يَسْتَوْحِشْ منه الخصوم. والآن أريدُ أن أُلقيَ عليك حقيقة هذين اللفظين. فاعلم أن قولَ الفقهاء: «صحَّ» ليس مأخذوًا من قولهم: «صحَّ المريض» ليدُلَّ على الصحة باعتبار الأوصاف، بل بحَسَب الأجزاء فقط. قالوا: «إنها صَحَّت»: أرادوا بها تَمَامِيَة الأجزاء، وإن اشتملت على نقصان في أوصافها. واللفظ يكون موضوعًا لمعنىً في اللغة، ثم يَنْسَلِخُ عنه في العُرْف، والبُلَغَاء يستعملونه بالنظر إلى الاستعمال الأول، فيضْطَرِبُ فيه العوام لذهولهم عن استعماله الأول، وشيوعه في غيره عندهم. ولا يُقَالُ له: تعدُّد المعاني، بل: تعدُّد موارد الاستعمال، كما مرَّ منا في لفظ المسح والنَّضْح. فالمسحُ في حق الأَرْجُل: بالإِسالة، وفي الرأس: بإِمرار اليد المبتلَّة. وكذلك نَضْحُ البحر يكون بالأمواج، ونَضْحُ النواضح بحملها ماءً كثيرًا، ونَضْحُ الإنسان بالرشِّ. فهل تَرَاه أنه اختلفت معانيه؟ كلا، بل هو لفظٌ واحدٌ لمعنىً واحدٍ، وإنما اختلف بحَسَبِ اختلاف الموارد. أَلا تَرَى أن الرشَّ في البحر لا يكون إلا بقدر عِظَمِهِ، وهو بالأمواج، وكذلك في النواضح. فهو في جميع المواضع بمعنى الرَّشِّ، إلا أن الرشَّ والرشَّ مختلفٌ، ومن هذا التحقيق اندفعت اعتراضات الخصوم بأسرها، ومع ذلك ول تَرَكَها الفقهاءُ لكان أحسن، فإِنه وإن صَحَّ باعتبار الأصل، إلا أنه يُوقِعُ الناس في الغلط وترجمته صحَّ عندي بالفارسية (شد) لا (درست شد) وكذلك ترجمة أجزاء (روان شد) وبالأردوية (كجه- هو كيايا جل كيا). 774 م- قوله: (حُبُّك إيَّاها...) إلخ، وقد مرَّ أنه تصويبٌ للنية دون العمل، مع أنه سَبَقَ منه الاعتراض عليه أيضًا، حيث قال: «ما يَمْنَعُك أن تفعلَ ما يأمرك به أصحابُك»، وفيه: أن الأحسنَ أن لا يُعَيِّن سورةً من القرآن لشيءٍ من الصلوات، كما في «الكنز». واستثنى منه ابن نُجَيْم التقيد بالسور التي ثَبَتَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فالتعيينُ بقدره يجُوزُ. 775- قوله: (شُعْبَة): وهو واسطي، وعلمه من أهل الكوفة، وكذلك شيخه عمرو بن مُرَّة، وهكذا إسناد ابن مسعود رضي الله عنه كلُّه من أهل الكوفة. 775- قوله: (هذًّا كَهَذِّ الشَّعْر)، ولعلَّهم إذا لم يَتَغَنُّوا هذُّوا به، والمراد منه القراءة بالسرعة. ولعلَّ التشبيه بهذِّ الشَّعْر باعتبار هَذِّهم عند الحفظ، وإلا فهم كانوا يَنْشِدُون الأشعار بتمطيطٍ وتطويلٍ، لا بالسرعة. 775- قوله: (النظائر)، وفي بعض النُّسُخ: «القرائن»، وكنت أراه بمعنى المتناسبة فقط. ثم رأيتُ في القاموس أن القَرينين يقال للبَعِيريْن كانوا يَشُدُّونهما في حبلٍ بشجرةٍ: واحدًا في هذا الطرف، والآخر في ذلك الطرف. ولعلَّهم كانوا يَشُدُّونهما لمناسبةٍ في طبعهما ليستأنسا بهذا الطريق، فلا يفترقا. ويُقَال لهما: القرينان، ويُقَال لهذا الحبل الذي يُقْرَنُ به البعير القَرْن، فحينئذ ذُقْتُ حلاوة هذا اللفظ، فإنه يَدُلُّ على التناسُبِ الشديدِ بين هاتين السورتين، لا على المناسبة في الجملة، فكانت هَاتِيكَ النظائر متناسبة بحيث لا يمكن افتراقها كالقرينين من البعير. 775- قوله: (فَذَكَرَ عِشْرِين سُورَةً)، واستدلَّ منه الكِرْمَاني الشافعي على أن الوترَ ركعةٌ، لأن المعروفَ في عدد ركعاته صلى الله عليه وسلّم إحدى عشرة، فإِذا صارت عشرون سورةً لعشر ركعاتٍ، سورتان في كل ركعةٍ، لَزِمَ أن يكون الوترُ ركعةً، تمامًا لإحدى عشرة. قلتُ: لِمَ لا يجوز أن تكونَ صلاتُه ثلاث عشرة ركعة؟ فصارت عشرون سورةً لعشر ركعاتٍ، وبقيت الثلاث للوتر. كيف، وقد عدَّ أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه تلك السور مفصَّلة، كما هو عند أبي داود.
وفيه ثلاثةُ أقوالٍ عندنا: قيل: إن ضَمَّ لسورة يُوجِبُ سجدة السهو، وقيل: لا يُوجِب بل يُكْرَه، وقيل: لا يُسَنُّ ولا يُكْرَه، وهو قول فخر الإسلام، هو المختار عندي.
وفي إسناده أبو نُعَيْم: وهو ابن دُكَيْن، وله قصة: وهي أن أحمد بن حنبل وابن معين رحلا إلى عبد الرزَّاق في اليمن ليأخذا منه الأحاديث، فتبعهما رجلٌ كان أدون منهما، فلمَّا رَجَعَا عنه، قال ابن معين: أريد أن أَحْضُرَ أبا نُعَيْمٍ فأجرِّب حفظه، هل تغيَّر أو لا؟ وقد كانا أخذا منه أحاديث قبل ذلك، فجمع ابن معين ثلاثين حديثًا من أحاديثه، وأَدْخَلَ بعد كل عشرٍ منها حديثًا من غيره لم يُحَدِّث به أبو نُعَيْم، لينظر أنه هل يعرف حديثه من غيره أو لا؟ فقال له أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى لا تَخْتَبِرْه، فإنه على حفظه، فأبى ابن معين إلا أن يفعله، حتى جعل يُلْقِي عليه حديثًا حديثًا، فكلما يَبْلُغُ إلى العاشرة، يقول أبو نُعَيْم: ليس هذا من حديثي. فلمَّا بَلَغَ الموضع الثالث، عرف أبو نُعَيْم أنه اختبره، فقال لأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: أما هذا فأورع من ذلك، وللذي تبعهما: أمَّا هذا فأصبر من ذلك، ولا أراك إلا أنت يا ابن معين، وضرب صدره برجله. فقال له أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:: ألم أقل لك إنه على حفظه كما كان. ثم ابن معين كان حنفيًا كما مرَّ، ومن مقالته: إنا نتكلَّم في رجالٍ قد ضربوا الأخبية في الجنة قبلنا بمئتين، ولمَّا بَلَغَتْ أبا حاتم مقولتُه هذه، أطبق الكتاب، وما زال يبكي في مجلسه، ثم قال: وما بنا في الكلام عليهم من حاجة إلا دَعَتْنَا ضرورةٌ، فنتكلَّم عليهم لهذه.
اختار المصنِّف رحمه الله تعالى القولَ القديمَ للشافعيِّ رحمه الله تعالى، مع أن الأقربَ إلى الحديث هو الجديدُ. قوله: (قال عطاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ). بقي أن سنةَ الدعاء هي الجهر والإخفاء، فالذي يَظْهَرُ أن الأصلَ الإخفاءُ، وثَبَتَ الجهرُ. بالعوارض أيضًا، ولا يَصِحُّ التمسُّك من النص على خلاف الجهر إلا بعد ثبوت سنة الإسرار من الحديث، كما سيجيء منا الإِشارةُ إليه. قوله: (وأَمَّنَ ابن الزُّبَيْر)، ولعلَّه حين كان يَقْنُتُ في الفجر على عبد الملك، وكان هو يَقْنُتُ على ابن الزُّبَيْر رضي الله عنه، وفي مثل هذه الأيام تجري المبالغات أيضًا. قوله: (وكان أبو هُرَيْرَة رضي الله عنه...) إلخ. وهذا حين كان مؤذِّنًا في البحرين، فانظر أن أبا هُرَيْرَة رضي الله عنه يَهْتَمُّ بالتأمين ما لا يَهْتَمُّ بالفاتحة، فأين ذهبت الفاتحة؟ وهو الذي يقوله عند مالك في «موطأ»: «لا تسبقني بآمين»، فهمُّه بالتأمين أكثر منه بالفاتحة، مع أنه لا تعلُّقَ له بالجهر. قوله: (وقال نافع...) إلخ. وهذا عامٌّ لخارج الصلاة وداخلها، وقد ثَبَتَ عندنا أنه كان يقول: آمين خارج الصلاة أيضًا. واعلم أن مذهب الإمام: إخفاء التأمين للإِمام والمأموم، وهو روايةٌ عن مالك رحمه الله تعالى، ومذهبه: إخفاؤه للمأموم، وتركه للإِمام رأسًا، وهو أيضًا روايةٌ عن إمامنا. وذهب الشافعيُّ رحمه الله تعالى في القديم: إلى الجهر لهما، وفي الجديد: إلى الجهر للإِمام دون القوم. وعن أحمد رحمه الله تعالى: الجهر بالتأمين. ولكن لا أعلم ماذا تفصيله عنده. قلت: وما ظَهَرَ لي هو أنه ثَبَتَ الجهر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قطعًا، لكن لا على طريق السُّنية، بل للتعليم أحيانًا، أي لتعليم أنه ما يقرأ. نبَّه عليه الجُرُجَاني في «حاشية الكَشَّاف»، ومحمد البِرْكِلي في «تفسيره»، وهو من علماء الروم، متقدِّم عن ابن الهُمَام رحمه الله تعالى. وصرَّح في «البرهان» بجوازه، وهو الذي قال به صاحب «الهداية» في التسمية: إن الجهرَ بها كان تعليمًا، فلو أجاب بمثله في التأمين لاسترحنا. وعندي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى نصًّا أنه يجوز الجهرُ به في قنوت النازلة، فسلَّمْتُ الجواز في الصلاة أيضًا. وأكثر السلف كانوا يُسرُّون به كما في «الجوهر النقي» عن ابن جرير الطبري فتحصَّل: إن الجهرَ جائزٌ، والإِسرارَ به سنةٌ، وهو المختارِ عندي. ومن قال بكراهة الجهر، فقد قَصَرَ. ثم ههنا ثلاثة أحاديث: الأول: «إذا أَمَّنَ الإِمامُ، فأَمِّنُوا». والثاني: إذا قال الإِمامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ}، فقولوا: آمين». والثالث: «إذا أمَّنَ القارىءُ، فأمِّنُوا». وتمسَّك الشافعيةُ بالأول، فإِنه صريحٌ في جهر المأموم والإِمام، فإنه أَمَرَ المأمومَ أن يُؤَمِّنَ عند تأمين الإِمام، فأوجب أن يكونَ تأمينُ الإِمام جهرًا، ليتمكَّن المقتدي أن يُؤَمِّنَ على تأمين إمامه، وإذا كان تأمينه جهرًا لهذا الحديث، فعلى شاكلته تأمين المأموم. وأجابوا عن قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}...» إلخ: أنه على حذف المعطوف، أي: فأَمَّنَ، وأُقِيمَ المعطوف عليه مقامه، لكونه دالاًّ عليه وسببًا لعلمه، وليس بناء على الترك، بل لأن المطلوبَ في التأمين هو الموافقةُ مع الإمام. وحينئذٍ لا بُدَّ أن يُحَال تأمين المأموم على قراءة الإِمام بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ، ليصيرَ المقتدي بعد سماعه على أُهْبَةٍ من تأمينه، فيُؤَمِّنُ إذا فَرَغَ الإِمامُ من قراءته ويُؤَمِّنُ، وتتحصَّل الموافقةُ المطلوبةُ، ولو علَّق تأمينَه على تأمين الإِمام لفاتت الموافقة، فإِن تأمِينَ القوم حينئذٍ يقع بعد تأمين الإِمام لا محالة، ولا تَحْصُلُ الموافقة. فإِذن قوله: «إذا أَمَّنَ الإِمامُ فَأَمِّنُوا»: لبيان موضع الالتقاء، ولبيان الجهر بهما. وقوله: «وإذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ، بأنه يَدُلُّ على التقسيم كقوله: «إذا قال الإِمامُّ: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد»، على ما قرَّرنا، فقلنا بالتسميع للإِمام، والتحميد للمقتدي. كذلك قال المالكية ههنا: إن الإِمام يقرأ فقط، فلا يُؤَمِّنُ، ويُؤَمِّنُ المقتدي فقط ولا يقرأ، فهو على التقسيم. قلتُ: ولعلَّهم قاسُوا التأمين في الصلاة على التأمين في الخارج، وليس في الخارج إِلا المقاسمة بين الدعاء والتأمين، فيدعو واحدٌ ويُؤَمِّنُ آخرون. فهكذا جعلوا الإِمام داعيًا، والمأمومين مُجِيبين، فلو أمَّنَ الإِمامُ أيضًا لا نقلب الموضوع، وصار الداعي مُجِيبًا، فَيَقْتَصِرُ على قوله فقط، ولا يَبْسُطُ يده إلى حقِّ غيره. وأجابوا عن الحديث: بأن معناه: إذا حملكم الإِمامُ على التأمين، بأن يقرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ}، أو: إذا بَلَغَ الإِمامُ موضِعَ التأمين، فأمِّنُوا. وليس معناه: إذا قال الإِمام: آمين، ليكون دليلا على تأمينه. وجعلوه من باب أَنْجَدَ وأَعْرَقَ أي: دخل في النجد والعراق، ولا أرى التأمين ثابتًا في اللغة بهذا المعنى، فإِن التَّعْدِية بهذا الطريق لو ثَبَتَت عندهم، لكان نادرًا جدًا، كما سيأتي في الجنائز. والحاصل: أنهم حملوا هذين الحديثين على معنين متغايرين، بحيث صار كلٌّ منهم مُسْتَدِلاًّ من أحدهما، ومُجِيبًا عن الآخر، وذلك لأنهم أشكل عندهم جمع أحد اللفظين مع الآخر، لأن اللفظَ الأول ينادي بتأمين الإِمام، واللفظ الثاني يُشِيرُ إلى تركه، فبنى كلٌّ منهم مذهبه على واحدٍ منهما، وتأوَّلَ في الآخر حسبما أدَّى إليه اجتهاده وذوقه، وللناس فيما يَعْشَقُون مذاهب. وما كَشَفَ اللَّهُ عليَّ سبحانه: أن أحد الحديثين لا يلتقي مع الآخر، وهما وَرَدَا في مَطْلَبَيْنِ. فالحديث الأول، أي: «إذا قال الإِمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ وَرَدَ لبيان وظيفة القوم عند فراغ الإِمام عن قراءته، وذِكْرُ فضيلة التأمين فيه استطرادٌ، وإنما أُحِيلَ فيه على قراءة الإِمام دون تأمينه لنكتة ذكرها الشافعية، وهي: تحصيل التوافق بين التأمينين، والحديث الثاني، أي: «إذا أمَّن الإِمامُ...» إلخ سِيقَ لبيان فضيلة التأمين فقط، وتأمين الإِمام فيه تمهيدٌ لذكر تأمين المأموم، وبيانٌ لموضع تأمينه. والدليل على ذلك: أني قد تتبعت لذلك نحوًا من مئة طريقٍ، فلم أجد حديث: «إذا أمَّنَ الإِمام...» الخ إلا هذا القدر فقط، ولم أجده قطعةً من حديث الائتمام في شيءٍ من طُرُقه، بخلاف حديث: «إذا قال الإِمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}... إلخ، فإِنه قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ في الائتمام، وفيه: «وإذا قرأ، فأنصتوا» سرده الراوي تارةً بتمامه، واقتصر على قطعة منه أخرى. فهذا الحديث هو الذي يَلِيقُ أن تُنَاط به مسألة التأمين، لأنه سِيقَ لبيان صفة الصلاة بتمامها، ووظيفة الاقتداء وما عليه من جهة ائتمامه بإمامه. ومع هذا لم يَذْكُر فيه تأمين الإِمام، بل ذَكَرَ من قوله القراءةَ ب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فقط. فعُلِمَ أن الإِمامَ يُخْفِي به، بخلاف الحديث الثاني، فإِنه لم يجيء لهذا المعنى، والمقصود منه: بيان فضل التأمين فقط، وأَمَّا ذكر تأمين الإمام، فهو تمهيدٌ لبيان تأمين المأموم وموافقته إياه، وإذا كان الإحالة فيه على تأمين الإمام لهذا، لم تَبْقَ فيه دلالة على الجهر أصلا، وطاح ما كان يُتَبَادَرُ من قوله: «إذا أمَّنَ»: أن الإمامَ يَجْهَرُ به أيضًا، لأنه تبيَّنَ أن الإحالة على تأمينه لبيان موضع الالتقاء والتوافُق فقط، لا ليسمعه المقتدي، فَيُؤَمِّنُ عليه. نعم لو وردت الإحالةُ عليه في أحاديث الائتمام، لكان فيه بناء على الجهر، كما في قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}» بناء على جَهْرِه بذلك، لأنه في سياق التعليم ممَّا يقوله الإِمامُ والمأمومُ، ولا يمكن امتثاله للمأموم إِلا أن يَجْهَرَ به الإِمامُ، وإِلا فكيف يَعْلَمُ موضع تأمينه، وأنه متى يُؤَمِّنُ فلو كان فيه: «وإذا أَمَّن...» إلخ، لدلَّ على جهر التأمين، كما دلَّ على جهر القول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}... إلخ. وإذن ما يَصِحُّ: أن ذكر تأمين الإمام لمجرَّدِ الارتباط تأمينٌ للمقتدي- وَتَعَذُّرِ الابتداء من قوله: «فَأَمِّنُوا»، فليس المقصودُ فيه تأمين الإمام. وبعبارة أخرى: أن «إذا» في قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ظرفية، والترتيب لبيان جزء فجزء، أي: إن تأمين المأموم مترتِّبٌ ومسبَّبٌ عن قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وليس تأمينهم مترتِّبًا على تأمينه، بل هما معًا. وأمَّا في قوله: «إذا أمَّنَ الإِمامُ، فأَمِّنُوا»، فإن شِئْتَ جعلتها شرطية أو ظرفية فيها تحت قوله تعالى: {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ} وابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا»: بأن الفاء فيه للتعقيب أو المقارنة، ونقل فيهما الخلاف بالعكس، كما نقله أبو حيَّان. وعندي أنها لا تَنْسَلِخُ عن معنى التعقيب مطلقًا، إلا أن التعقيبَ عندي أعمُّ من الذاتي والزماني، واعتبر اللُّغَوِيُّون الذاتي أيضًا، فتدخلُ بين الشرط والجزاء، والعِلَّة والمَعْلُول، والفرق بين الشرطية والظرفية قد مرَّ، فتذكَّره. فإن كان الأمر كما قرَّرت من تغايرُ، الحديثين، فالأسبقُ في الباب هم الحنفية رحمهم الله، لأنهم بنوا مذهبهم على الحديث الذي سِيقَ لذلك نصًّا، وهذا يَدُلُّ على أن الإمام لا يَجْهَرُ بالتأمين، بل وظيفته القراءة ب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}... إلخ. ثم يُؤَمِّنُ أيضًا، لكن لا من حيث إمامته، بل لكونه مصليًا، فَيُؤَمِّنُ لنفسه سِرًّا، كما يُؤْمِّنُونَ لأنفسهم سِرًّا. ومن ههنا تبيَّن أن تأمينه لمَّا لم يكن من جهة الإمامة، بل من جهة لُحُوقه معهم وانفراده في نفسه، لم يَنْقَلِبْ الموضوع. فللإمام وظيفتان: وظيفةٌ من جهة إمامته، ووظيفةٌ من تلقاء كونه مصليًا. ويؤيِّدُ ذلك ما أخرجه النَّسائي في هذا الحديث: «فإِن الإمام يقولها»، فنبَّه على ثبوت تأمين الإمام على خلاف ما قال به المالكيةُ. ودلَّ على إسراره على خلاف ما قاله الشافعيةُ، لأن الإمامَ لو كان يَجْهَرُ بها، لَمَا كان للتنبيه على تأمينه معنىً، فإنه يسمعه كلُّ واحدٍ. ففي قوله: «فإن الإمامَ يقولها» تنبيهٌ على أن تأمينَه يكون سِرًّا، بحيث لو لم ينبِّه عليه لَمَا عَلِمَه المقتدون. ثم إنه ليس في ذخيرة الحديث ما يَدُلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أمر المأمومين أن يَجْهَرُوا بها، بل من جَهَرَ منهم جَهَرَ برأيه. نعم في حديث وائل: أنهم جَهَرُوا بها، مع اختلاف فيه بين سُفْيَان وشُعْبَة. وأمَّا ما أعَلَّ به البخاريُّ حديث شُعْبَة، فقد أجابوا عنه بالنقولِ الصريحةِ، ويَظْهَرُ من «مسند أحمد» أنه توقَّف فيه، وهو الاعتدال. ومن العجائب أن هذه السنة مما تَعُمُّ به البَلْوَى، ثم لم تَصِلْ مرفوعةً إلى الحجازيين إلا من طريق وائل وعِدَادِه من أهل الكوفة. قال الدَّارقُطْني: قال أبو بكر: هذه سنةٌ تفرّد به أهلُ الكوفة. ا ه. ثم إن سلَّمنا أن اللفظ كما قال به شُعْبَة، فلا يزيدُ على كونه واقعةٌ وليس ضابطةً كُلِّيةً، ولا نُنْكِر ثبوت نفس الجهر بها ولو مرارًا، وهو جائزٌ عندنا أيضًا بدون كراهة. وإنما الكلام في السنية، ولا تَثْبُت إلا بالأمر من جهة الشارع واستمراره عليه، وليس بثابتٍ، ولن يَثْبُت إن شاء الله تعالى. وبالجملة إذا لم يأتِ فيه شيءٌ من المرفوع، وهدى القرآن إلى سُنَّة الدعاء، فوضعناها على الرأس والعين، وَعَمِلْنَا بها. قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (الأعراف: 55) وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف: 205)، فهذه سنة الدعاء، عَلِمْنَاها من القرآن، وتعلَّمناها منه، فلو عَلِمْنَا من حديثٍ مرفوع أنه أمر المقتدين بالجهر، أو استمرَّ عليه، لاتَّخَذْنَاه سنةً، ولرجَّحنا الخصوصَ على العموم، ولكن لَمَّا لم يُنْقَلْ فيه إلينا شيءٌ من المرفوع، إلا ما نُقِلَ عن أهل الكوفة، وهو واقعةٌ، عَملْنا بالعموم الواردة فيه. فإن قلتَ: إن قوله: «إِذا أَمَّنَ الإمامُ أفاد الجهرَ إفادة قوله: «فأمِّنُوا» أيضًا، لكونه على شاكلةٍ واحدةٍ. قلتُ: كلا، وإلا لَزِمَ الجهرُ في جواب الأذان، والجهر بالتكبير والتحميد للمأموم في حديث الائتمام، لاتحاد الشاكلة هناك أيضًا. أَلا تَرَى إلى قوله: «إِذا كَبَّرَ، فَكَبِّرُوا...» إلخ، لم يذهب هناك أحدٌ إلى أن القومَ أيضًا تَجْهَرُ به مع الإمام، فَقِسْ عليه قوله: «إِذا أمَّن، فأَمِّنُوا»، لا تجد بينهما فارقًا إن شاء الله تعالى، فلم يَخْلُصْ لهم في المرفوع لجهر القوم شيءٌ. نعم، لهم لجهر الإمام. قوله: «إذا أمّن الإمام...» إلخ، وفيه أيضًا نظرٌ، لأنه يمكن أن يكون تعليقًا بأمرٍ معلومِ الوجود، لأن موضعَ تأمينه معلومٌ، فلا حاجةَ إلى أن يَجْهَرَ الإمامُ بها أيضًا. وفي التعليم كفايةٌ بل في قوله: «فإن الإمام يقولها» بناء على الإخفاء، فقوله: «إذا أمَّن» يستدعي وجوده فقط، لا جهره. ثم إن ابن الهُمَام رحمه الله قال في «الفتح»: إن الحديثَ عبارةٌ في تأمين القوم، وإشارةٌ في تأمين الإمام. قلتُ: وهذا إنما يَصِحُّ على رأي صدر الشريعة، فإنه قال: إن المنطوقَ إن كان مقصودًا أصليًا، فهو عبارةٌ، وإلا فهو إشارةٌ، بخلاف الشيخ رحمه الله، فإنه صرَّح في «التحرير»: أن المنطوقَ مطلقًا عبارةُ النص فلعلّه ذَهَلَ عَمَّا حَقَّق في «التحرير». ولعلَّك عَلِمْتَ منه: أن تمسُّك البخاري على جهر الإمام والمأموم لا يَصِحُّ من هذا الحديث. والذي يَخْطُر بالبال: أن المصنِّف رحمه الله حَمَلَ التأمين في الصلاة من باب تشميت العاطس وردّ السلام، ويشترط فيهما أن يكونَ بصوتٍ، يَبْلُع الحامد أو المُسَلِّم، فلا يمكن إحياء هذا الحق إلا بالجهر. فهكذا تأمينُ القوم إذا كان جوابًا لدعاء الإمام، وَجَبَ أن يكونَ بالجهر كردِّ السلام، وتشميت العاطس، فأُخِذَ منه جهر القوم بهذا الطريق، وللمانع فيه مجالٌ وسيع. بقي الحديث الثالث، فأخرجه المصنِّف رحمه الله في الدعوات، لأنه فَهِمَ أن القاريء لا يَقْتَصِرُ في الصلاة، فيجوز أن يكون في الخارج وفي الصلاة، بخلاف الإمام، فإنه لا يكون إلا في الصلاة، فأخرجه في كتاب الصلاة، وأخرج لفظ القاريء في الدعوات. ومثل هذه الغوامض غير نادرةٍ في كتاب المصِّنف. ثم إنه لم يَتَنَقَّحْ عندي أنهما حديثان عند البخاريِّ، أو من باب الاختلاف في الألفاظ فقط، وهذا من دَأْبه: أنه إذا لم يتبيَّن عنده اختلاف الحديث من اختلاف الألفاظ، يُتَرْجِمُ عليهما تَبعًا للألفاظ. وعندي: هو حديث واحدٌ سِيْقَ لأحكام الصلاة دون الخارج. ثم لا أدري ماذا كان لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والحاكم في هذا الباب: هو الوِجْدَان لا غير. بقي اختلاف سُفْيَان وَشُعْبَة في حديث وائل، فوجهُهُ عندي: أنه من باب حِفْظ كل ما لم يَحْفَظْهُ الآخر. والحديث يَسْقُطُ على مذهب الشافعية: «وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم جَهَرَ فيها بالتأمين دون جهر الفاتحة»، وهو مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، فكان في تأمينه جَهْرٌ وَخَفْضٌ معًا؛ الجهرُ في نفسه، والخفضُ بالنسبة إلى الفاتحة. فما يرويه شُعْبَةُ أيضًا صحيحٌ، وما يُؤَدِّيه سُفْيَان أيضًا صحيحٌ، إلا أن كلاهما يُؤدِّيَان حصةً من المراد، فجهرُه أدَّاه سُفْيَان، وخفضُه بالنسبة إلى الفاتحة ذكره شُعْبَة، والأمران صحيحان، هذا هو الرأي عندي. والناس حَمَلُوه على الاختلاف، فاضْطَرَّ كلٌّ إلى إعلال ما عند الآخر، ولا حاجةً إليه عندي. ومن العجائب: أن شُعْبَةَ قائلٌ بجهر آمين وسُفْيَان بإخفائه، كما ذكره ابن حَزْم. وحينئذٍ ماذا تَنْفَعُك رؤيته بالجهر إذا كان عَمَلَه بالإخفاء. والراوي إذا رَأَى بخلاف ما رَوَى، فانظر فيه ماذا تَرَى. وقد بَسَطْتُ الكلامَ فيه مع شواهده فيما ألقيت في درس الترمذي. وذكرت نبذةً منه في «كشف الستر»، فليراجعه من أواخره. وبالجملة، قد تبيَّن لي بعد السَّبْر: أن بناء الشريعة ليس على الفاتحة خلف الإمام، ولا على رفع اليدين، ولا على الجهر بالتأمين. فإنه ليس في «الذخيرة» حديثٌ قوليٌّ في رفع اليدين، ولا في إيجاب الفاتحة على المقتدين ابتداءً في الصلاة كلها، ولا في الجهر بالتأمين مطلقًا، والمراد من البناء: هو التأصيل والتفريع. نعم هناك حديثٌ قوليٌّ في التأمين بناؤه على الجهر، وهو عند أحمد رحمه الله: «إن اليهود ما حَسَدُوا عليكم كما حَسَدُوا على التأمين، فأَكْثِرُوا من قول: آمين»، أو كما قال: وقد وجَّهناه في رسالتنا «كشف الستر».
|